• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / روافد
علامة باركود

أركيولوجيا الهجرة السرية: الحِجاج في "الما بعد"

إبراهيم أكراف

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/6/2012 ميلادي - 3/8/1433 هجري

الزيارات: 13891

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أركيولوجيا الهجرة السرية

الحِجاج في "الما بعد"

 

أتناول في هذا الموضوع - كما هو مُشار إليه في العنوان - الحِجاج في الما بعد؛ أي: بعد وصول المهاجرين السِّرِّيين إلى الضفة الأخرى؛ حيث حاولنا أن نتتبَّع وصولهم خُطوة خطوة؛ لنكشف عن مظاهر الحجاج، وعن مدى تحقُّق نُبوءَة هذا الراحل في جُنح الظلام إلى بلدٍ ظنَّه التربة الخصبة لاستنبات أحلامه وآماله، فما مظاهر الحجاج في هذه اللحظة؟ وهل وجَد أصدقاؤنا المهاجرون ما وعَدهم المُغرِّرون حقًّا؟

 

مباشرة - بعد الوصول إلى اليابسة - تبدأ رحلة جلْد الذات من جديد، فلا وقت للاستراحة هناك، وإلا فإن العودة إلى الجحيم هي إتاوة استرجاع الأنفاس، يُولي المهاجرون وجوههم قِبَل المجهول، هاربين من كل مكان تُشَمُّ فيه رائحة البوليس؛ "ابتعَدت عن المحطة خوفًا من البوليس"[1]، يأْوُون إلى الأرياف، وأنَّى وجدت الأكواخ والكهوف، "ضاقت بي الحيلة، فقرَّرت الصعود إلى الجبل أنا وسعيد"[2]، ويقودنا هذان الشاهدان إلى القول: إننا أمام صور فوبيا العودة، وذلك ما يُثبته قوله: "خوفًا من البوليس"، و"ضاقت بي الحيلة"، حِجاج صريح يكشف لنا التطهير الذي ينتظر مهاجرًا ظنَّ أن "الهناك" حرَمٌ آمِنٌ لكل حَراك.

 

الغرب الذي في المتخيَّل ليس هو الغرب الذي في الواقع، إن الأخير صعبٌ طويل، صعبٌ دخوله، وحينما تختار أن تتسلَّل إليه، تكون قد اختَرت ألاَّ تكون مواطنًا باستحقاق، تُظلله لعنة الطرد أنَّى حلَّ وارتحل، لا لشيءٍ، إلا لأنه في عُرف القانون في "الهناك" غير شرعي، لتَظل الحيطة والحذَر جهازًا مناعيًّا، كفيلَيْن وحْدهما بحجْب شبح المغادرة الذي يُهدد كلَّ مَن لا يحمل بطاقة إقامة، وعلى هذا الأساس تجد المهاجر اللاشرعي يهندس سكناته وحركاته، لَمَّا تطأ قدمه أرض الميعاد، بل تبدأ الهندسة من "الهنا".

 

"كان سعيد قبل أن يغادر المغرب إلى إسبانيا، يحمل معه نصيحةً مفادها أنه إذا دخل إلى أية قرية أو مدينة إسبانية، فأول ما عليه القيام به، هو الولوج إلى المقهى، أية مقهى؛ لأن الشرطة لا يمكنها إلقاء القبض على شخص إلا حينما يغادر المحل"[3]، هكذا تُصبح الشرطة الإسبانية ظلاًّ، لا يفارق ضيف إسبانيا الثقيل، يتفاداهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، "لم نَشأ أن ننزل في الخزيرات؛ لأنها مشوهة بالحراكة"[4]، ويقول آخر: "كنت سأذهب إلى نواحي برشلونة، لكني امتنعتُ؛ لأن برشلونة مدينة صعبة، فيها المراقبة على أشدها، وأنا لا أوراق لدي"[5]، أوراق تشكل "فيتو" البقاء، أو إدانة العودة إلى "الهنا"، وتفاديًا لهذا الأخير يقوم المهاجر بحرْق جوازه أو إتلافه، وذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن الحرق الذي نتحدَّث عنه - كما أسلفنا - ليس حرْقًا مجازيًّا، إنه حرْق حقيقي، "كان كل مَن أطلب العمل عندهم، يسألوني عن الأوراق، كنت قد أتلفت كلَّ الأوراق؛ عملاً بنصيحة قيلت لي قبل مغادرة المغرب"[6].

 

وفي يوميات مهاجر سري، نقرأ: "عبدالقادر الجزائري بمجرد ما وصَل إلى إسبانيا، أحرق جواز سفره"[7]، وهكذا يصبح هذا الحرق "شيكًا" على بياض، يُخول للمهاجر السري أن يتبضَّع أي جنسية شاء، "عبدالقادر يقول ضاحكًا: إنه في كل مرة يُعتقل يعطيهم اسمًا وجنسية ما، فمرة عراقي، ومرة فلسطيني، وهكذا، ويضيف أنه جامعة دول عربية متحركة"[8].

 

تأسيسًا على هذه الشواهد، نستطيع القول - دون جزم -: إن الحجاج في هذه المرحلة لا يكاد يخرج عن مسارين: مسار التعليل، ومسار الغاية، هذا الأخير قد يأتي ظاهرًا في السياق، كما قد يأتي مُستترًا أيضًا، ونوضِّح ما قلناه بطرح سؤال مفاده: لماذا يختار المهاجرون الأماكن الوعرة والابتعاد عن أماكن وجود الحراكة؟

 

يختار الحراكة الأماكن الوعرة، والابتعاد عن الأماكن المشوهة بالحراكة، ولا ننسى إحراق جواز السفر أو إتلافه؛ لسبب لا ثانيَ له، وهو الهروب من قبضة البوليس، إذًا نحن أمام الحجة العلية، يُعلل من خلالها المهاجر السري خوفَه الأبدي من البوليس، هذه الحجج العلية تُضمر حجة غائية لا تكاد تُخطئها العين، ألا وهو شبح العودة الذي يقابله هوس البقاء، فالسقوط بين يدي البوليس يعني تلقائيًّا العودة إلى الحياة الأولى؛ لذا يضطر المهاجر إلى إحراق جواز سفره أو إتلافه، حتى إذا سقط في قبضة البوليس، لجأ إلى الكذب علَّه يُنجيه، وما يستوقفنا هنا هو أسماء الأماكن التي يلجأ المهاجر إلى تقديمها للشرطة لَمَّا يُلقى عليه القبض، إنها غير بريئة ما دام هذا الوجود نفسه غير بريء، "سألونا عن هُويتنا، فقلنا لهم: إننا جزائريون - وقع هذا سنة 1996 - فقالوا لنا: لا بدَّ أن تكونوا مغاربة، وتريدون أن تكذبوا علينا"، صمَدنا على موقف واحد، لكنهم بدؤوا يفتشون ثيابنا واحدًا تلو الآخر.

 

من سوء حظنا كان محمد يحمل معه دواء الكُلى، اشتراه من إحدى الصيدليات في المغرب، قرأ الشرطي تلك العلبة، فوجد "كازابلانكا" مكتوبة، قلنا لهم: إننا جزائريون، وإننا دخلنا من جهة الناظور، وأتينا إلى إسبانيا عبر المغرب، لم يَثقوا بنا، فجاؤوا إلينا بخريطة، وطلَبوا منا أن نُحدد من أين دخلنا المغرب"[9]، ونقرأ في محكيات الحراكة أيضًا: "صبيحة اليوم التالي أخذوني إلى مركز الشرطة في إشبيلية، قبل ذلك كنت قد قضَيت في ضيافة الشرطة ثلاثة أيام في إشبيلية، التقيت بمغربي من تطوان يعرف الإسبانية إلى حد ما، كان يتحدث إلي ويُترجم لهم، هو أخبرهم بأنه فلسطيني، أما أنا، فقد قهرني البرد؛ مما جعلني أعترف بكل شيء، قائلاً لنفسي "فليعيدوني إلى المغرب إن شاؤوا"[10]، هذه الشواهد تهدينا إلى القول: إننا أمام حرْق معنوي للهوية؛ لأنها لا تؤمن البقاء في "الهناك"، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بتصفية حسابات سياسية، لا يمكن تصفيتها إلا برد هذا الحراك إلى بلاده، "المغرب وإسبانيا مثلاً، فإسبانيا لم تغفر للمغرب آنذاك عدم تجديده لاتفاقية الصيد البحري، التي رأى فيها الإسبان أن المغرب شرَّد صياديه، كما نذكر أيضًا مصادرة الطماطم المغربية في ميناء الجزيرة الخضراء، ولا ننسى قضية الصحراء الغربية...إلخ)، فكيف بمن صادر الطماطم المغربية، ألا يصادر بؤس العالم[11] - بؤس المغرب - الحراكة أقصد.

 

إن الأماكن التي وقَفنا عندها في الخطاب المغالط للحراكة - الذي بين أيدينا - تتَّسم بالاستقرار اجتماعيًّا وسياسيًّا (فلسطين، العراق، الجزائر)، ولما علِمنا حال هذه الأوطان المُتأجِّج حربًا، والمُترع بالعواصف السياسية، فإن المهاجر السري لا يُقدمها جزافًا، بل يهدف إلى استعطاف مسؤولي الأمن، ودفْعهم إلى تأمُّل حال البلاد التي فرَّ من قيْظها، وتبديد قرار إرجاعه إلى "الهنا"، هذا ما يمكن أن نتَّفق على تسميته "بحجاج الاستعطاف"، ويزكي قولنا هذا قوله: "هو أخبرهم بأنه فلسطيني، أما أنا، فقد قهرني البرد؛ مما جعلني أعترف بكل شيء، قائلاً لنفسي: فليُعيدوني إلى المغرب إن شاؤوا".

 

التطواني تبرَّأ من أصوله؛ ليصبح فلسطينيًّا عن سبْق الإصرار والترصد، والعلة هي الرغبة في البقاء، واعتراف الآخر بمغربيته يُضمر استسلامه، وذلك ما تُثبته الصدمة المناخية، قهر البرد الذي يعني تلقائيًّا: عدم القدرة على المقاومة؛ أي: إن المهاجر السري قد رفَع يديه، وأعلن استسلامه، إنه ما يمكن أن نتعارف عليه "بحجاج الاستسلام".

 

وبعد صدمتَي التيه وشبَح المغادرة - اللذين يُظللان المهاجر اللاشرعي حتى يصبح شرعيًّا - تأتي الصدمة الثقافية لتزيد أزمة الحراك تأزيمًا، وحكايته التراجيدية تبْئِيرًا، صدمة تتمثل في الإنسان واللسان، ناهيك عن السحنة والمكان.

 

تتجسد صدمة الإنسان في جهل الآخر للذات الشرقية، فبالنسبة للإنسان الغربي، فكل حقوق الوحشية والشر محفوظة للإنسان العربي، ويُعزى ذلك إلى الحجاج المغالط الذي يتم تمريره عبر وسائل الاتصال السمعية والبصرية، دون إغفال الذاكرة الجمعية، "قالت لي عندما أطْلعتها على اسمي: إنني أُذكِّرها بالشِّرير الذي كان في صُحبة علي بابا وعصابته، ابتسمت، وقلت لها: إنني لستُ كذلك"[12]، كما يقومون أيضًا بتصوير الإنسان العربي تصويرًا ممسوخًا، يظهره بأعضاء تناسلية جبارة؛ أي: إنه إنسان لا يوجد في مخه إلا الليبيدو، إنه إنسان يختفي وراءه إنسانٌ آخر حتى تظهر براءته، "الأفلام التي يقدمونها في التلفزيون تُصور الرجل العربي كأبْله بلُعابٍ سائل عند رؤيته للمرأة، وأحيانًا كشخص ببطن "مندلق" ونظرة شريرة، يقدم السم في شراب لشخص آخرَ؛ لذا فكرت دائمًا أن السينما هي آخر مكان يمكن أن نلجأ إليه للتعرف على الآخر"[13]، إننا أمام حرب دون سفك دماء، فضلاً عما يُمرره الإعلام من وسائل ملغومة، فإن الضمير الجمعي هو الآخر يُكرس هذه الصورة ويُجذِّرها "في بعض القرى النائية التي ذهبنا إليها للعمل في حقولها، لا يكاد الناس هناك يعرفون شيئًا عن المغاربة، كل ما يعرفونه يعود إلى الأساطير القديمة حول الموروس الذين يجوبون أرضهم (...)، وكلها تروي تاريخًا عجائبيًّا مليئًا بالمغالطات.

 

وكل ما يعرفونه الآن عن المغاربة أنهم مجانين؛ لأنهم يركبون القوارب فرارًا من شيء ما، يعتقدون أن كل المغاربة الذين يشاهدون في الشارع، أتَوا على ظهر المراكب كما في الأزمنة السحيقة، أشرح لبعضهم أحيانًا أن المغرب مثله مثل إسبانيا تمامًا، سوى أن إسبانيا توجد في أوروبا والمغرب في إفريقيا"[14]، هكذا يصبح المهاجر السري مروِّجًا لثقافته، ورسولاً يسعى لمحو الميراث المترسِّخ في ذاكرة الآخر، وتضميد الكدمات التي تركتها قنابل العنف اللفظي في ذاكرة الإنسان الغربي، الإسباني هنا تحديدًا.

 

يمارس الخطاب المرتبط بالضمير الجمعي وبوسائل الإعلام - المسموع منها والمرئي - وظيفة حجاجية تضليلية تقوم على تشويه الآخر ومسْخه - كما بيَّنا ذلك - انطلاقًا من إظهاره في وضعيات بشعة، ما يجعل السينما آخر مجال يُمكن ارتياده للتعرف على الآخر على حد تعبير رشيد نيني، إنه أدرَك خطورة الحجاج المضلل الذي تعتمده وسائل الإعلام، وإشهار هذا الموقف احتجاج على ما تمارسه وسائل الإعلام على المواطن من عنف رمزي.

 

إذا كان الإعلام الغربي يعتمد الحجاج المُضلل تُجاه الإنسان العربي، فإن المهاجر اللاشرعي يلجأ إلى الحجاج المُصوِّب أو النقد المقوِّم، يصوِّب اعوجاج رؤية الإنسان الغربي للإنسان العربي، والمبنية على حجاج مُضلل، فيؤدي هذا الحجاج وظيفة تقويمية تصحيحية.

 

ولَمَّا كان الإنسان بفطرته مجبولاً على التواصل، فإن الحراك يقبل الانخراط في مجتمعه الجديد، لكن سَرعان ما يصبح أبكمَ؛ لعجزه عن التواصل مع الآخر باللغة التي يفهمها، والتي يريد أن يتواصل بها أيضًا ليُصدم من جديد؛ يقول عبدالرحيم المنصوري: "فأخذ قلمًا، وكتب لي في يدي مائتي كلمة، كتبها بالأرقام تسهيلاً للفهم، كان ذلك أول موقف عايَنت فيه كيف يمكن للغة أن تكون حاجزًا حقيقيًّا"[15]، ولا تقف الصدمة عند اللغة، بل يصبح الجسد؛ أي: السحنة صدمة أخرى تجعل منه إنسانًا غير عادي، فضلاً عن كونه غريبًا، "مجرد أنك شخص يحمل بشرة سمراء تهمة كافية لتوقيفك أمام الجميع وتفتيش جيوبك، ثم لترحيلك إذا لم تكن تحمل بطاقة إقامة"[16]، هكذا يصبح الحراك مدانًا حتى تَثبُت براءته.

 

المكان بدوره ليس رحيمًا، "إحساس بالحزن يلفني وأنا أعبر الشوارع، تستطيع أن تقضي النهار كله سائرًا في الطريق دون أن تلقي السلام على أحد، عندما تأتي لتعيش هنا، يجب أن تكون قد قررت أن تعيش بجذور مقصوفة، مثل النبتة التي تُنتزع من تربتها؛ لتُستنبت في تربة أخرى"[17]، إن الغربة كما يتبيَّن من الشاهد ليس غربة اختيارية، بل هي غربة إجبارية يؤكدها التقابل الموظف بين النبتة المنتزعة من تربتها؛ لتُستنبت في مكان آخر، والحراك الذي أجبَرته ظروف قاهرة على مغادرة الوطن، التقابل هنا صنع مثالاً يصور لنا بشكل مكثَّف وإيحائي وضْع المهاجر في "الهناك"، فلعنة السرية تفرض عليه أن يغدو مريدًا ليس له إلا السمع والطاعة، "جاء أحد المستخدمين وطلب مني أن أتبعه، سرت خلفه، قال لي أن أحمل المكنسة، وأن أنظف مكانًا سلطت عليه أضواء كثيرة الألوان، شعرت بالضيق، لا أحب أن أتلقَّى الأوامر من أحد، نظَّفت المكان بعصبية"[18]، حتى إنه لتختل موازين القوى بين الحراك والحيوان؛ إذ يصبح هذا الأخير في المرتبة العليا والأول في المرتبة الدنيا، "تذكَّرت الكلبة إتيل التي هاجمتني، ومزقَّت كم سترتي الرياضية، ولو كانت عضتني، لَما كان بوسعي أن أصنع شيئًا ضدها، إتيل لديها أوراق هوية وبطاقة تُخولها زيارات منتظمة عند الطبيب، أنا ليس لدي شيء من هذا"[19].

 

ويتبيَّن من هذه الشواهد أنها تضمر حجاجًا ضمنيًّا، فالإحساس بغربة المكان في "الهناك" حجاج يثبت دفء الوطن، والحميمية التي تربط الأفراد في "الهنا"، على نقيض الضفة الأخرى، "تستطيع أن تقضي النهار كله سائرًا في الطريق دون أن تلقي السلام على أحد".

 

إجمال القول، هذه شواهد تعرض علينا إشكال اندماج الحراكة - المغاربة - في عالمهم الجديد؛ لسبب من الأسباب؛ يقول رشيد نيني: "المشكلة التي تبدو بنظري جديرة بالدراسة، هي مشكلة اندماج المغاربة في المجتمع الإسباني، نحن في الحقيقة أشخاص على درجة كبيرة من التعقيد، أنا أحيانًا لا أفهم نفسي كثيرًا على مستوى الاندماج؛ فالمغاربة يُعتبرون الأفشل دائمًا؛ لأنهم يعتبرون ثقافتهم هي الأحسن دائمًا؛ لذلك يتصرفون خارج الوطن كما لو كانوا في الواقع داخله، وهذا يجعل الأنظار موجهة إليهم أكثر من غيرهم"[20].

 

إنه حجاج تحصيل الحاصل الذي يضمر تعلُّق المغربي - الحراك - بأهداب وطنه.

 

الغربة تدفع المرء إلى اختراق الخطوط الحمراء، وفي هذا الباب ما يرويه لنا أحمد الجلالي: "شيء واحد فعَلته دون شعور، لكن سَرعان ما ندِمت على ارتكابه، تلك الليلة كان الإسبانيون كلما همُّوا بشرب شيء أو أكْله، أخذوا يقرؤون شيئًا يشبه الأناشيد والتراتيل، ثم ما يلبثون أن يضعوا أيديهم على صدورهم ذات اليمين وذات الشمال (التثليث)، شعَرت بالعزلة، فبدأتُ أصنع مثلهم، يبدو أنني كنتُ المسلم الوحيد هناك"[21].

 

الأمر لم يتوقف عند التثليث، بل تعداه إلى الانصهار كليًّا في بوتقة الآخر، نقرأ في محكيات الحراكة ما نصه: "ارتحت لأنطونيو كثيرًا، وتجرَّأت أن أتناول معه كأس خمر في يوم رمضاني والعياذ بالله، شيئان جعلاني أُقدم على ذلك الفعل المشين:

أولاً: شعوري بالعزلة وسط أناس كلهم يأكلون.

 

ثانيًا: لم تكن تعطينا المؤسسة الأكل إلا في الأوقات الثلاثة المعروفة، وضمن جدول زمني مضبوط، لم يكن يُدخلون في الاعتبار وجبة السَّحور، إذا لم يكن هناك مَن يصوم؛ لأنهم نصارى، شعرت أن أنطونيو بدأ يسري في دمائي"[22].

 

إن الملاحظ في الشاهدين اللذين استدعَيناهما في حديثنا عن الغربة واختراق الخطوط الحمراء، المتمثلة - في الشاهدين - فيما هو ديني، والذي يحظى بالقداسة في المجتمع العربي، وذلك ما يشي به حقل معجمي، يمكن أن نصطلح عليه "حقل الندم والتحسر"، (تجرَّأت...، والعياذ بالله...، ندُّمت على ارتكابه "التثليث") - هو تسانُد هذه الحُجج وتعالقها داخل "موكب حجاجي"، يُبرز العلة الثاوية وراء التثليث وشُرب الخمر في شهر رمضان، وهذه العلة هي "الغربة"، لكن ليس أي غربة، إنها "غربة موحشة ".

 

أما الغاية، فهي تبرير فعْلٍ مشين، وذلك بالتوسل "بالحجاج المركب"؛ حيث إنه وظَّف حجاج التقسيم بتقديمه لحجاج يتفرَّع بعضه عن بعض، على نحو ما يتبدَّى في تناوله لكأس الخمر في يوم رمضاني؛ إذ إنه عد سببين:

أولاً: الشعور بالعزلة.

 

ثانيًا: استنكاف المؤسسة عن إعطاء الطعام خارج الأوقات الثلاثة المعروفة، ودون أن نُغفل عدم إدراجهم لوجبة السَّحور في قائمة الوجبات "لحجة ثابتة"، ألا وهي انتماؤهم للنصرانية، وقد جاءت الحجة الثابتة ذات وظيفة حجاجية تفسيرية داعمة، تعضد الحجج التي قبلها وتفسِّرها، وحجة الانهيار هي الأخرى حاضرة في الشاهدين، "شعَرت أن أنطونيو بدأ يسري في دمائي"، إنه الاعتراف الضمني بالاندماج القسري في ثقافة الآخر.

 

وبعد التكيُّف مع لعنة السرية، يستدعي الوطن إلى محكمة الموازنات؛ ليوفَّى كلُّ وطنٍ ما كسَب؛ إذ يضع المهاجر اللاشرعي "الهنا" في كِفَّة و"الهناك" في كفة ثانية، الهنا مُتغلغل في التنشئة الاجتماعية للحراك، ما يجعله أسير هذه التنشئة في الهناك؛ يقول رشيد نيني: "أحاول أن أشرح لعبدالوهاب أنه واهم عندما يستمر في تحليل الأمور بمنطق المواطن المغربي، الذي تضطره إكراهات الحياة اليومية إلى البقاء - حَذرًا من مغادرة البيت - إلى أن يتمدَّد فوق سريره في الليل؛ لأنك هنا لن تكون مضطرًا لحماية نفسك من جشَع سائقي التاكسيات، أو من آذان مُجالسيك في المقهى، أو زملائك في العمل، أو لا أعرف؛ لأنه هنا لا أحد يُفكِّر في جعْلك تسقط في مقلب (...)، تستطيع أن تتحدث عن الهمبرغر وعن السياسة في نفس الوقت، ولن يفتح لك أحد محضرًا في مكان ما "[23].

 

إن الشاهد يَنتقد واقعًا موبوءًا بقِيَمٍ منحطة؛ الحرية المصادرة، أو بالأحرى القمع، ثم اللامواطنة المتمثلة في جشع أرباب التاكسيات، وكذا التجسُّس، إننا أمام حجاج يدين التنشئة الاجتماعية المعطوبة للمواطن المغربي، الذي يتربَّى في كنَف الخوف والمصادرة والنَّهم المادي، على عكس الإنسان الغربي (الإسباني هنا تحديدًا) المتمتِّع بالحرية الفردية والسياسية؛ حيث إن السياسة والهمبرغر متساويان، ويَستطرد نيني موازنًا بين الهنا والهناك، "افتقدتُ الشرطي السمين الذي ينظر إلى محفظة النقود أكثر مما ينظر إلى أوراق السيارة، والبوليسي الوَقِح الذي يلعن أمَّك قبل أن يتفقَّد هُويَّتك.

 

افتقَدت سيارة الإسعاف المتراخية وزعيق بوقها المزعج، وسائقها الذي يبدو باسمًا، وكأن رائحة الجُثت تصيبه بالنشوة، افتقَدت رؤية سائقين يتحدثان، ويُعطلان حركة المرور، افتقَدت نشرة الأخبار المملَّة والمذيع الثقيل الذي يتلوها، افتقَدت أكاذيب السياسيين والمثقفين أولاد الكلبة"[24].

 

هكذا - وكما يُبين الشاهد - ينتقد الحراك الوضع في "الهنا"، موازنًا إياه ضمنيًّا بالهناك في جو حنيني، يتصدَّره فعل الافتقاد "افتقَدت"، والمفتقد هو الشرطي الذي ينظر إلى الحقيبة أكثر من أوراق السيارة، وسيارة الإسعاف المتراخية...إلخ، وما هذه المفتقدات إلا قالب صُهِر فيه التوق إلى الهنا اجتماعيًّا دائمًا، يظل الهناك هو الأرحب والأرحم، "يمكن أن تلاحظ بسهولة أنه لا أثر هنا لأي شحاذ، الشيوخ في دُور العجَزة ينتظرون النهاية بهدوءٍ، وأصحاب العاهات تتكفَّل بهم الدولة.

 

إذًا بمستطاعك أن توفِّر رأفتك لنفسك، فلا أحد هنا في هذه الساحة يوم الجمعة مساء سيطلبها إليك"[25].

 

لتظل حقوق الذل والإهانة محفوظة "للهنا" حتى إشعار آخر، فالسجن في "الهناك" يَفضل المنازل في الهنا، ومما أورَده الجلالي في هذا الصدد: "تبرَّكنا بسجن مالقة، إنه فندق حقيقي وليس سجنًا، فيه ملعب الكرة وملعب التنس، والأغطية والهاتف، بل إن السجناء هناك من حقهم أن يرفضوا الأكل إن تناولوا مثله في الأسبوع السابق (...)، لدرجة أن الإنسان عندنا يفضل السكن فيه على الإقامة في واحد من الأكواخ التي نسكنها"[26].

 

وإذا قلنا: إن حقوق الذل والإهانة محفوظة للهنا، فإن واقع الإدارة المغربية في الهناك لا ينكر ذلك، يقول نيني: "نزَلت أمام قنصلية المغرب بمدريد، دخَلت وفي نيتي أنني سأكون الزائر الصباحي الوحيد للقنصلية، لكنني اندهَشت عندما دخلت قاعة الانتظار، مكيف الهواء لا يعمل، لذلك كانت القاعة تغرق في جو ثقيل"[27].

 

وفي السياق ذاته (الموازنة)، يوازن بين الشخصية الاعتبارية في الهناك والشخصية المعنوية في الهنا، "مع أنني أشتغل بلا عقد، فإن أُجرتي محترمة، أربح خلال ثمانية أيام من العمل ما يعادل راتب أستاذ السلك الأول في المغرب خلال شهر"[28].

 

أمام هذه الفوارق التي عرَضنا لها، يصبح الهنا جحيمًا والهناك جنة، وذلك ما نقرأه في محكية نور الدين خيي، "في إسبانيا رأيت الجنة، وعندما كنت أعود إلى المغرب، كنت كمَن يعود إلى الجحيم"[29].

 

إن قراءةً فاحصة للشواهد التي مرَّت معنا، تسير بنا نحو القول: إن الحجاج مبني على التقابل التناظري، "لما في ذلك من علامات بيان وعناصر إيضاح"[30].

 

وهو تقابُل تناظري بين الهنا والهناك، يرد صريحًا بذِكر طرفي التناظر والمميز لكليهما، ويرد ضمنًا بذكر أحد الأطراف، ويترك أمر الطرف الآخر للقارئ.

 

ومن وجهة نظرنا، يمكن القول: إن مجال التقابل التناظري في النص يتمحور حول المجال الاجتماعي في علاقة الأفراد فيما بينهم، وفي علاقتهم بالمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وهذا ما سنعمل على توضيحه في الجدول الآتي:

الهنا

مقابل

الهناك

الحذر طيلة اليوم منذ الخروج من البيت إلى العودة إليه.

مقابل

الاطمئنان.

أرباب التاكسيات جشعون.

مقابل

أرباب التاكسيات ليسوا جشعين.

هناك من يفكر في جعلك تسقط في مقلب.

مقابل

هنا لا أحد يفكر في جعلك تسقط في مقلب.

لا تستطيع أن تتحدث عن الهمبرغر والسياسة في نفس الوقت.

مقابل

تستطيع أن تتحدث عن الهمبرغر والسياسة في نفس الوقت.

الشرطي ينظر إلى محفظة النقود أكثر مما ينظر إلى أوراق السيارة.

مقابل

الشرطي ينظر إلى أوراق السيارة أكثر مما ينظر إلى محفظة النقود.

سيارة الإسعاف: متراخية، بوقها مزعج، سائقها مبتسم.

مقابل

سيارة الإسعاف: مسرعة، جيدة، سائقها جدي.

السائقون يتحدثون، ويعطلون حركة المرور.

مقابل

السائقون يحترمون حركة المرور.

نشرة الأخبار مملة والمذيع ثقيل.

مقابل

نشرة الأخبار مثيرة والمذيع خفيف.

البوليس يلعن أمَّك قبل أن يتفقَّد هُويَّتك.

مقابل

البوليسي لا يلعن أمك.

كثرة الشحاذين.

مقابل

لا وجود لأي شحاذ.

الشيوخ مرميون في الشوارع.

مقابل

الشيوخ في دار العجزة.

أصحاب العاهات لا تتكفَّل بهم الدولة.

مقابل

أصحاب العاهات تتكفل بهم الدولة.

المنزل كوخ.

مقابل

السجن قصر.

القنصلية المغربية سيئة.

مقابل

القنصلية المغربية سيئة.

 

إن ما أتينا على سرده في هذا الجدول، يهدينا إلى القول: إننا أمام آلية حجاجية تمسح الطاولة، وتعمل على مناظرة الطرفين "الهنا والهناك"، فتنكشف الحجة القوية والحجة الضعيفة، فتَدمغ الأولى الثانية، فيصل بذلك المحاجج l’argumentateur إلى مرماه، والمرمى في حالنا هذا هو تبيان قوة الآخر وتفوُّقه إنسانيًّا ومؤسساتيًّا، وبتعبير آخر يَوَد أن يقول: إن هذا الوطن هو الذي نريد أن يكون لنا مثله، بل إنه يحتج على هذا الوطن الذي تتَّسم فيه علاقة الشعب بالمؤسسات بالأعطاب، والشيء نفسه تشهده العلاقة بين الأفراد فيما بينهم، ومن ذا نبلغ القول: إن الحجاج في الشواهد - قيد التحليل - تمشي على ساقين؛ ساق تمجيد الآخر (الهناك) والاحتفاء والابتهاج به، وساق ثان يجلد الذات (الأنا - الهنا) ويَبخسها، ويحتج أيما احتجاج على وطنٍ لم يحجب عنه طعم الغربة.

 

هكذا يرخي "الهناك" على "الهنا" حجاجه - على لسان الحراكة - فيدمغه، وذلك بتصيد نواقص "الهنا" ومناظرتها "بالهناك"، إذًا نحن أمام وظيفتين حجاجيتين: الوظيفة الحجاجية التمجيدية، والوظيفة الحجاجية الاحتجاجية التبخيسية، احتجاج لا أدل عليه إلا هذه العبارة الخارجة من جوانية مُحترقة "هدوك الناس بزاف علينا"[31]، بالتهجين اللغوي l’hibridation، تَفضح الذات نكاية الواقع في الهنا ونتانته.

 

إن ما عرَضنا له سابقًا، لا يحول دون القول: إن المهاجر اللاشرعي معتز بوطنه أيما اعتزاز، ويرفض التكالب عليه، ومن ذلك ما ذكره لنا رشيد نيني: "أحد الأصدقاء من الوفد المغربي ببرشلونة، قال لي: "إن الصحافة البرتغالية تضامنت مع الشباب المغاربة، واقترحوا عليهم المكوث بالبرتغال مقابل راتب شهري رمزي، لكن الشباب المغاربة أبدوا تحفُّظهم، وكأنما تشمَّموا بحواسهم السياسية لا بأنوفهم، رائحة طبخة مبيتة، فأعرضوا عن هذا المعروف الذي لم يجازوا به في وطنهم أبدًا، تعبيرًا منهم عن تشبُّثهم بهذا الوطن، رغم قساوته"[32]، يستوقفنا في هذا الشاهد رفض المهاجرين - اللاشرعيين - التكالب على الوطن رغم كل الإغراءات، التي ستوفر لهم مقامًا طيبًا إلا أن هذا الرفض إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الرحلة إلى "الهناك" ليست رحلة لجوء اقتصادي فقط، بل هي رحلة إثبات الذات أيضًا واستنشاق الكرامة المفتقدة في "الهنا"، وهذه الحجة هي الموسومة بالحجة بالنقيض، وإذا كانت القنصلية المغربية في الهناك غارقة في جو ثقيلٍ، لا تحمل لسُمعة الوطن همًّا، فإن المهاجر السري سفير يحمل همَّ الوطن، ويسعى لتحسين صورته وتجويدها لدى الآخر "أتحاشى أكثر مرافقته (عبدالوهاب) في المصعد، ليس فقط بسبب الرائحة العطنة، لكن خوفًا من أن يتوقف المصعد في طابق ما، ويصعد أحدهم، فيعتقد أن رائحة كل المغاربة هكذا عطنة إلى درجة الغثيان"[33]، وكما يوضح الشاهد فالغاية هو صون صورة المغربي، والعلة عطانة عبدالوهاب.

 

رغم لعنة السرية التي تظل تُدثِّر المهاجر اللاشرعي وتُظلله، فإنه يرفض العودة إلى الهنا، متحديًا غربته ولعنة السرية أيضًا، وهو رفض مبني على أسباب شتَّى؛ منها: ما هو مبني على الأنَفة وعزة النفس، ومن ذلك ما رواه عبدالعزيز الفري عن سعيد الشرقاوي "يرى أنه من المستحيل أن يعود إلى الدوار؛ لأن الذين هاجروا وعادوا غانمين، ليسوا أحسن منه في شيء"[34]، ومنها ماهو مرتبط بالانبهار بالآخر الذي بلغ شأوًا في التقدم والتطور، حتى إن هذا الانبهار غدا قاب قوسين أو أدنى من القداسة؛ "أصبحنا نقدِّس الأجانب والعياذ بالله، حقيقة عندهم كثير من الامتيازات المادية: من مأكل، وملبسٍ، وسلطات، عندهم تعامُل المواطنين بشكل قانوني، ليس هناك ظلم على هذا المستوى، خلافًا لما حدث لي عندما وعدني المرشح المحلي بأن يجد لي عملاً فور فوزه (...)، نجح في الانتخابات المحلية والبرلمانية، وفي الأخير لم يفِ بوعده وخان"[35]، وفي الهناك تتحقق إنسانية الإنسان؛ "يمكن أن أحتمل كل شيء، أن أموت أو أجن، فذلك يهون، لكن أن يحدث لي ذلك في إسبانيا، وليس في المغرب؛ لأنني إن حدث لي ذلك في هذه البلاد الأجنبية سأجد حتمًا من "يهتم" بي، بينما لا أحد "سينتبه" إلي في المغرب إن حصل لي مكروه"[36]، وفي هذه الشهادة نقرأ معجمين مختلفي الاهتمام والانتباه، ففي "الهناك" اهتمام، أما في "الهنا" بمعنى مبطن، فلا يوجد إلا الإهمال، وسبة القوم هي الأخرى حاجز يحول بين المهاجر اللاشرعي والعودة إلى "الهنا"، كيف لا وقد جاء إلى بلاد العم سام حاملاً أحلام الأسرة وآمالها في كفٍّ وأحلامه في الكف الثاني؟ فكيف سيُبرر عودته بخُفَّي حُنين، وقد عاد غيره من ذي قبل غانمًا؟

 

ومن ذلك ما جاء في محكيات الحراكة على لسان بنت صغيرة، لَم تَعرف بعد معنى أن تصبح حراكًا؛ "اذهب يا أبي إلى إسبانيا، وعد بسيارة جميلة مثل سيارة فلان، ولا تنس أن تأتيني باللعب الجميلة من هناك!"[37]، وعلى لسان الأبناء دائمًا نقرأ في الحراكة أيضًا: "يا أبي إذا تعبت أو وقع لك مكروه، عليك أن تتذكرني، ولكن ما دمت صممت على الحريك، "فلا بد أن تُقاوم".

 

أوامر ما على الحراك إلا أن يستجيب لها، وإلا فإنه سيغدو مثلاً يُضرب في الفشل، هذا ما يمكن أن نصطلح عليه "مدونة الشجب" التي يستقبل بها كل حراك فاشل، بل يبلغ الأمر درجة إحساس الحراك - الفاشل - أنه قد جاء شيئًا فريًّا؛ فنظرة المحيط قد تغيرت تجاهه "رأيت أنني بين خيارات عديدة؛ إما الموت، أو الجنون، أو الرحيل مجدَّدًا إلى أوروبا، أحسست أن كل الناس ينظرون إلي كخائن"، موكب حجاجي يصب في اتجاه بيِّنٍ وواضح، ألا وهو الإصرار على البقاء في "الهناك" رغم قساوة الوضع، ففي "الهناك" ما ليس في "الهنا" من امتيازات مؤسساتية وإنسانية، وحتى من سوَّلت له نفسه العودة، تقف مدونة الشجب غُصة في طريقه، وذا يدفعنا إلى القول: إن الوظيفة الحجاجية في هذه الشواهد وظيفة حجاجية تشبُّثية بموقف البقاء في الغرب، وهذا ما اصطلح عليه روبريو بحجة تلازم الأشياء، ونعضد هذا الإصرار بشاهدين استحالت معهما الهجرة السرية إكسير الحياة؛ "سأبقى أبحث عنها (الحريك، الهجرة السرية) ولو بقي في جسدي عرق واحد ينبض؛ لأنني قمت حتى الآن بأزيد من 25 محاولة، اضطررت خلال واحدة منها للسفر داخل ثلاجة"[38]، صفوة القول: "لوعة الحريك مثل التدخين لا تغادر الإنسان تمامًا"[39]، إننا أمام تقنية بلاغية ساحرة تعتمد التقابل لصناعة المثل، هكذا يصبح شغف الحريك مرادفًا للإدمان على التدخين، وتصبح الضفة الأخرى مقابلاً للنعيم، بينما الوطن يغدو مقابلاً للجحيم.



[1]الجلالي: أحمد؛ مصدر سابق، ص (12).

[2] المصدر نفسه، ص (102).

[3] المصدر نفسه، ص (38).

[4] المصدر نفسه، ص (12).

[5] المصدر نفسه، ص (105).

[6] الجلالي: أحمد؛ مصدر سابق، ص (13).

[7] نيني: رشيد؛ مصدر سابق، ص (52).

[8] المصدر نفسه، ص (52).

[9] الجلالي: أحمد؛ مصدر سابق، ص (84).

[10] المصدر نفسه، ص (14- 15).

[11] أخذنا هذا المصطلح عن ميشال روكار، مقال منشور بعنوان: "بؤس العالم"؛ ترجمة محمد خيرات، الاتحاد الاشتراكي، العدد (9291)، ص (4).

قال فيه العبارة "لا يمكن لفرنسا أن تستقبل كل بؤس العالم".

[12] نيني: رشيد؛ مصدر سابق، ص (23).

[13] المصدر نفسه، ص (50).

[14] نيني: رشيد؛ مصدر سابق، ص (50).

[15] الجلالي: أحمد؛ مصدر سابق، ص (12).

[16] نيني: رشيد؛ مصدر سابق، ص (74).

[17] المصدر نفسه، ص ( 52).

[18] نيني: رشيد؛ مصدر سابق، ص (48).

[19] المصدر نفسه، ص (112).

[20] الجلالي: أحمد؛ مصدر سابق، ص (63).

[21] المصدر نفسه، ص (18).

[22] الجلالي: أحمد؛ مصدر سابق ، ص (18).

[23] نيني: رشيد؛ مصدر سابق، ص (63).

[24] المصدر نفسه، ص (64).

[25] المصدر نفسه، ص (153).

[26] الجلالي: أحمد؛ مصدر سابق، ص ( 112).

[27] نيني: رشيد؛ مصدر سابق، ص (76).

[28] المصدر نفسه، ص (95).

[29] الجلالي: أحمد؛ مصدر سابق، ص (119).

[30] بازي: محمد؛ "التقابل وبلاغة الحجاج في كتاب إحياء علوم الدين؛ للغزالي"، ضمن جماعي الحجاج مفهومه ومجالاته، "دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة"، الجزء الثاني؛ إعداد وتقديم: إسماعيلي علوي حافظ، عالم الكتب الحديث، إربد - الأردن،2010، ص (115).

[31] الجلالي، أحمد؛ مصدر سابق، ص (113).

[32] نيني، رشيد؛ مصدر سابق، ص (93).

[33] نيني، رشيد؛ مصدر سابق، ص (21).

[34] الجلالي، أحمد؛ مصدر سابق، ص (37).

[35] المصدر نفسه، ص (34).

[36] المصدر نفسه، ص (40).

[37] المصدر نفسه، ص (43).

[38] الجلالي أحمد؛ مصدر سابق، ص (113).

[39] المصدر نفسه، ص (135).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أركيولوجيا الهجرة السرية.. الحِجاج لحظة "الما بين"

مختارات من الشبكة

  • قصة الهجرة النبوية - ليلة الهجرة ووداع الوطن الحبيب(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • قصة الهجرة النبوية - ليلة الهجرة ووداع الوطن الحبيب(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • قصة الهجرة النبوية - ليلة الهجرة ووداع الوطن الحبيب(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • الهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام(مقالة - آفاق الشريعة)
  • رمضان بين الهجرة والهجر(مقالة - ملفات خاصة)
  • للمبتعث الهجرة لله والهجرة المضادة لها(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • دعوة للهجرة في ذكرى الهجرة(مقالة - ملفات خاصة)
  • نموذج تطبيقي لتنمية المجتمع المحلي الإسلامي(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الهجرة باقية إلى قيام الساعة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • "إن الله معنا" درس من دروس الهجرة النبوية (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)

 


تعليقات الزوار
1- i3jab
hafida - maroc 10-07-2012 02:30 PM

adhachani ma9aloka hada. kalimatoka wa tri9atoka fi atta3bir oslobok wa hosno ikhtiyarika lilmawdou3..................tbarkllah 3la l akh ibrahim.....mazidan mina annajah encha allah

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب